مسألة نمو الأطفال وكيفية التعامل معهم من المسائل الأكثر أهمية، تناولها العلم منذ زمن وما زال؛ بحث في تفاصيلها، محاولًا تحليلها وشرحها، أساتذةُ علم النفس التربوي والاجتماعي من جهة، ومتخصصون في علم الأحياء وجراحة الدِّماغ من جهة أخرى. وُضعت النظريات، ونوقِشتِ المسألة، وأجريت الاختبارات، حتى كانت خلاصة الجهود أنَّ نمو الطفل قائم على ثلاثة مجالات، ألا وهي: النمو العقلي والنمو الجسدي و النمو النفسي، وكل مجال له ربطة وثيقة مع المجالات الأخرى، إلا أنه وفي الحديث عن التربية خصوصًا، تجدر الإشارة إلى أنه لا بد من تسليط الضوء على أكثر المجالات ارتباطًا بها وهو النمو النفسي.
لا خلاف أنَّ الصِّحة الجسدية للطفل هي حصيلة إشباع الاحتياجات العضوية له، كالطعام والشراب والنوم، فكلما توفرت هذه الاحتياجات الأساسية بمعايير السلامة كانت صحته الجسدية سليمة. وكذا بالنسبة لما يتعلق بالصحة النفسية للطفل، تبنى وتتعزز من خلال إشباع الاحتياجات النفسية له، ومن أحد أهم أركانها الحبّ، الذي يحتاج إلى إشباع باستمرار.
الحب هو عاطفة إنسانية تتمركز حول شخص أو شيء أو مكان أو فكرة، وتسمى هذه العاطفة باسم مركزها، فالعاطفة تجاه الوطن تكون حبًّا للوطن، وضمن إطار التربية، تتمركز عاطفة الأم وعاطفة الأب حول طفلهما فتكون حبًّا للطفل، وهو حاجة كما تم ذكره، إلا أن الحديث عن الحب في التربية بهذه العمومية لا يجدي نفعًا، إذ إنه طالما أكد أغلب الأهل حبهم لأطفالهم، حتى وجد الأطفال في آخر المطاف يعانون نقصًا عاطفيًّا مرده تقصير الأهل وعدم وعيهم. لهذا تبين أنه لا بد من الحديث عن الحب بالتفصيل، حيث ستتناول هذه المقالة أهمية ونوعية وكيفية الحب الضروري للأطفال.
القاعدة التي من شأنها تحديد نوعية الحب هي العطاء والإحسان والرحمة، فالحبُّ الحقيقي للطفل يكون عطاء بلا مقابل، وإحسانًا بلا كشف حساب، ورحمة ملازمة لأي فعل أو قول يواجه الأب أو الأم فيه طفلهم. أما إذا تحول العطاء إلى عطاء مشروط والإحسان إلى المنِّ المؤذي والرحمة إلى التعسُّف، فعندها سيتحول الحب إلى حب مَرَضيّ أو مؤقت، وربما لن يُسمَّى حبًّا أصلًا. فالخلاصة أن الحب اعتمادًا على هذا التقسيم نوعان: واحد لا مشروط، والآخر مَرَضي.
الحبُّ المَرضي هو عندما يكون الأب والأم راضيين على ولدهما، محسنين إليه، حنونين عليه، طالما أنَّ الطفلَ يحقِّق لهما ما يريدان، ويشبع حاجاتهما ويعظمهما ويعطيهما، فإن توقف عن العطاء، وإن كان توقفًا بسيطًا، يتراجع حبهما مباشرة حتى إشعار آخر. إن هذا الحب مثلًا فيه عطاء كما الحب اللامشروط، إلا أنه حب يدور حول ذات أحد الأبوين، وليس حول ذات الابن. حب مؤقت لأجَلِ الخطأ، وبعدها يتم فيه كشف الحساب فورًا دون تردُّد، يريه كم ضحَّى وكم أعطى وحرم نفسه النعيم وكم سهر وكم تعب وكم اشترى إلى غير ذلك من العبارات التي قد لا يخلو منها بيت عربي. أما الحب اللامشروط من الأهل لا يعيقه أو يوقفه تصدٍّ من جهة الطفل أو عدم اهتمام أو تقصير أو سوء تصرف.
إذا أخطأ طفل هل يهينه والده ويحطُّ منه ويؤذيه، أو ينصحه ويقف إلى جانبه وينهاه عن الخطأ بحكمة؟ إذا غضب الأب على ولده هل يدعو له أو عليه؟ وهذه من معايير الحب. من حق الأهل على أولادهم أن يبروهم، ويردوا جميلهم، وإحسانهم بالمثل وزيادة إن استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. وإن لم يفعلوا ذلك وعقّوهم فقد خسروا خسرانًا كبيرًا ولحقهم وبال فعلهم. ولكن، لا ينبغي التوقف عن الإحسان إليهم والدعاء لهم ونصحهم بالتي هي أحسن هذا إن كان ادعاء الحُبِّ صادقًا.
كيفية الحب،
بعد أن تبين لنا أهمية وأنواع حب الأهل لأولادهم، فلا بد من معرفة لغة الحب، وأقصد هنا وسائل التربية بالحب. وسائل التربية بالحب سبعة: كلمة الحب، نظرة الحب، لمسة الحب، دثار الحب، ضمة الحب، قبلة الحب، بسمة الحب.
الوسيلة الأولى هي كلمة الحب؛ إن تكوّن نظرة الطفل لنفسه، وتكوّنَ شخصيته في الدرجة الأولى تكون نتيجة لما يسمعه من الأهل. فالدعم والاحتواء بالكلام وحسن الاستماع والنصيحة التي هدفها المصلحة والكلام المحفز الداعم، ينمّي عنده شعور الاعتزاز بالنفس والثقة والبرالعميق لهم، مهما كان فيه من عيوب خَلقية أو مشاكل تميزه عن غيره، وهذا ما يدفعه إلى عدم المقارنة بالغير والرضا والقناعة والتسليم لهم. بينما يشكل الحطُّ من قيمة الطفل والتعسف به وإذلاله الكثير من المشاكل النفسية المستعصية، كالخوف والقلق والتوتر والانعزال عن المجتمع وعدم الثقة بالنفس والتراجع الأكاديمي وعدم الرضا بالحياة التي يعيشها، فمن ثم يراقب نفسه بعين الاستصغار. وكذلك نظرة الحب لها تأثير كما الكلمة، فالعيون مرآة للقلب، فعند المرض مثلًا يتمسك الابن بأبويه، ينظر في عينيهما إن وجد الشفقة رق قلبه لهما، أما إن وجد عدم المبالاة والانشغال فربما زاد مرضه وتعدى الجسد الخارجي إلى القلب. وكذا دمعة الفرح أو الحزن لها تأثيرها في زيادة فرح الابن أو تأثره حزنًا.
أما بالنسبة للمسة الحب، فهي بغاية الأهمية وخاصة عندما يكون الطفل مرتكبًا لخطأ ما، فتأتي لمسة الأم أو الأب الحنون للطفل كرسالة عصبية يتحسس فيها الطفل بالقرب والحنان والأمن والرحمة. فهو بهذا لن يصر على ارتكاب الأخطاء، ولن يراوغ ولن يكذب أو يتهرب وإنما سيلين ويرضخ.
وكذلك دثار الحب، وهو عندما يقدم الأبوين الحب لأولادهما حالة غيابهما عقلًا أو جسدًا، فلقبلةٍ على رأس الولد النائم أثر، ولضمة ثوبه أو شم عطره أثر، كاللمسة إلا أنها حسيَّة وهنا معنوية.
قبلة الحب والبسمة، هما كفيلان بزرع الأمان والأمل، فالبسمة تولِّد بسمة، والقبلة تُخلِّفُ دفئًا قلبيًّا، ولا يزال الأولاد مهما بلغوا من السنِّ يحنون إلى بسمة أهاليهم وسط زحام الحياة، وإلى قبلة منهم ولهم.
التربية ليستْ في الأصل مجرد مهنة تُتَّخذ مقابل أجر، إنما هي علاقة إنسانية، يتكفل بها الأهل أملًا بأولادهم، فإن أحسنوا الغرس كان النبتُ صالحًا، وإن أساءوا وجدوا نتيجة فعلهم. وهي مسؤولية لا يجيدها كلُّ من تولاها، وكما تقدم أساسها الحبُّ الصادق، تظهرُ شُعلته عند أول لقاء بعد الولادة، ثم يُذكّيه حُسنُ المعاملة والمعاشرة.